يجب فى البداية ان نفرق بين دراسة المادة ودراسة الانسان والذى هو كائن مركب ومعقد . الاعتقاد السائد هو ان كل شىء نستطيع ان نضعه تحت التجربة والاختبار باستخدام المنهج العلمي التجريبي . وهذا يعود الى علماء الفلسفة الوضعية والتى تقول بطريقة مباشرة جداً , ما لا يمكن اثبات خطئه او صوابه تجريبياً فهو غير موجود . وهذه الرؤية حققت بالفعل نتائج رائعة على ارض الواقع من التطور المستمر الذى نلمسه جميعاً , ولا شك فى هذا . بيد ان الخطير فى هذه الرؤية هو انها تعمل وفق مدركات الحواس الخمس للانسان . ولهذا عندما قال ايمانويل كانت ان العقل البشري لا يتسطيع ادراك اى شىء فوق الزمان وفوق المكان لم يستحسنها الوضعيون . لانهم يعتقدون ان البشرية سوف تأتي فى يوم من الايام وسوف تعرف كل شىء ( كلما زادت رقعة المعلوم قلت رقعة المجهول)
النظرة الوضعية تلك لن تسمح لنا بادراك اى شىء غير مرئي .!! فالله لا يمكن ادراكه بالحواس الخمس , ولكن يمكن الاستدلال على وجوده عقلياً ونقلياً وذوقياً . وكذلك الوعي البشري على سبيل المثال هو شىء غير مرئي .
كيف سوف نتعامل معه ؟ !! ثم عندما نأتى لنتكلم عن الانسان , هل سوف ننطلق من ان الانسان مادة ؟ ام مادة وروح ؟ هذه اشكالية كبيرة . هل نلتزم بالنظرة الوضعية ؟ ام نلتزم بالنظرة الايمانية والروحانية ؟ ام نحاول ان نمزج بينهم ؟ هذه اسئلة يعمل البشر على ايجاد حلول لها فى اخر مئتي عام .
ولهذا عندما نأتي لنتكلم عن النفس البشرية حقيقة لابد أن نقف لنتأمل هذا المخلوق العميق مترامي الابعاد , والذى بداخله فعلاً اكوان شاسعة . فلا يوجد شخص الى الان استطاع فهم هذا المخلوق الانساني بكل ابعاده . ولكن يبقى لبعض العلماء منظور معين يرى منه الانسان ويقيم تجربته وتكوينه .
تخيل معي ان استطعنا الان بصورة مجازية ان نصنع مؤتمر عالمي انساني نتناقش فيه سوياً حول النفس الانسانية . مع الوضع فى الاعتبار ان هذا المؤتمر سوف يتخطى فكرة الزمن . ولهذا سوف نستطيع ان نستضيف فيه نخبة من المفكرين على مر العصور . ولكن يجب ان تفهم اننا هنا لن نستطيع ان ننقل لك كل ما قيل فكل اسم من هذه الاسماء القادمة سوف نحتاج الى عشرات الساعات كى نخبرك بما قاله ولهذا سوف ننقل لك الملخص فقط لا غير .
أهلا بكم فى ملخص مؤتمر النفس الانسانية والذى تم بثه مباشرة عبر الاثير من فضاء الاحتمالات من البعد الخامس الى كل العقول المضيئة حول العالم . هناك سؤال واحد قد طُرح على كل الحضور , كيف ترى النفس الانسانية ؟
وقد كانت اجابة الدكتور سيغيسموند شلومو فرويد كلها تدور حول ان الانسان ما هو الا دوافعه الغرائزية والتى ان تم كبتها سوف تترثب فى اللاشعور ( العقل الباطن ) منتظرة هفوه لتخرج منها وتعبّر عن نفسها على هيئة سلوك غير سوي.
وعندما طرح نفس السؤال على كارل ماركس قال الانسان ما هو الا دوافعه الاقتصادية وعلى الفرد أن يؤثر أولاً على واقعة والأشياء المادية في بيئته ليتصالح مع أهدافه المتنافرة بداخله .
واستمر الخلاف عندما قال جورج هيجل ان الانسان ما هو الا جزء من الحتمية التاريخية فالجميع هنا يعلم إن تاريخ العالم ما هو الا صراع من جانب الروح لتصل إلى مرحلة الوعي الذاتي والاستنارة وهي المرحلة التي تكون فيها حرة. ثم انى اختلف مع ماركس لان الوعي الانساني يسبق المادة , فالوعي يصنع الاشياء , وكل شىء ظاهري هو نتيجية لشىء باطني كامن فيه ,و لكل شىء انعكاس .
ثم قام ماركس بالرد قائلاً لا لا يا استاذي الفاضل , ان هذه مغالطة كبيرة . ان الانسان ابن بيئته فلا تخبرني ان المستوى المعيشى والاقتصادي لا يمثل الاسبقيه على الوعي , فالدول على سبيل المثال بدون ان تقوم ببناء المدارس والجامعات وهي اشياء مادية فى الاساس لن تستطيع ان تمنح الانسان البيئة السليمة التى ينمو فيها الوعي .
وهنا قام الفيلسوف جيرمي بنتام وقال عفوا ايها الافاضل الانسان من وجهة نظري ما هو الا دوافعه الخاصة ومصالحه الشخصية . و أن السلوك البشري محكوم بالحاجة إلى زيادة السعادة و إنقاص الألم , انها دائرة مغلقة يدور فيها الانسان منذ الولادة والى الممات . السعادة هى المحفز والالم هو العقاب . حتى في الأفعال التي يبدو عليها طابع الإيثار و العطاء والتعاطف والمحبة ؛ حتى حينما يختار الإنسان تقديم المساعدة لغيره فإن الغاية النهائية وراء هذا الخيار , دائما تكون المنافع الشخصية التي يتوقع بأن يحصل عليها بشكل مباشر أو غير مباشر . طمعاً فى السعادة او خوفاً من الالم .
وهنا اعترض بكل هدوء تشارلز داروين وقال ان الانسان مثل باقي المخلوقات فجميع أنواع الكائنات الحية تنشأ وتتطور من خلال عملية الانتقاء الطبيعي للطفرات الموروثة التي تزيد من قدرة الفرد على المنافسة والبقاء على قيد الحياة والتكاثر. والحياة مثل الغابة والبقاء فيها ليس للاقوى ولا للاذكى بل البقاء فيها لمن هو اكثر استجابة للتغيير .
قال ميكافيلي كل شخص فيكم يفسر الانسان من خلال منظوره هو وتجربته هو ولهذا انا شخصياً لا ارى الانسان سوى وسيلة وليس غاية . وبما انه وسيلة فما هى الغاية من كل هذا النقاش حول الانسان ؟ لاننا ببساطة لو عرفنا الغاية سوف نوظف الانسان كوسيلة لتحقيق هذه الغاية . فعلى سبيل المثال عندما قال ماركس ان الانسان ما هو الا دوافعه الاقتصادية , فهنا هو وضع الاقتصاد كغاية سوف يصبح الانسان هو الوسيلة للوصول اليها . ومن هنا سوف يصبح الانسان هو الطبقة العاملة التى تحقق الغاية الاقتصادية المنشودة .
ولكن ديكارت كان له رأى أخر فقال عفواً انا لا ارى الانسان سوى عمليه من التفكير , وعندما يتوقف الانسان عن التفكير ربما يتوقف وجوده فى هذه الحياة . فالانسان ما هو الا كائن مفكر . فكل ما تقدم ذكره من حضراتكم ما هو الا عمليات من التفكير والتى تعبرون عنها من خلال تجاربكم الذاتية . ولهذا اقول دائماً انا افكر اذاَ انا موجود ..
وعند هذه النقطة قفز ابو حامد الغزالي بعدما احمرت وجنتيه مما سمع وقال اسمحوا لى جميعاً ان اخبركم عن وجهة نظري , لدينا نحن المسلمون لا نستطيع تفسير الانسان فى كليته برده لعنصر مادي واحد بل الانسان يفسر لدينا على انه كائن مركب من المادة والروح . ولهذا اذا اردنا تعريف الانسان فلابد أن نقول ان الانسان كائن مركب له جسد مادي وله روح , ولا نستطيع اعتبار الانسان مادة فقط او روح فقط بل هو هذا وذاك معاً . واذا اردنا تعريف النفس الانسانية من منظورنا الاسلامى فسوف نقول ان النفس الانسانية هى مخلوق قد فضله الله عن باقى المخلوقات بعدما اختار حمل الامانه والتى هى عبادة الخالق وتعمير الارض وتزكية النفس .
وبهذا انتهى المؤتمر العالمي للانسان بدون اى اتفاق موحد .
وماذا عنك ؟ هل تعرف اجابة جيدة لهذا السؤال ..
كيف ترى الذات الانسانية ؟
